عشرات الالاف من السفن الغارقة في بحر البلطيق يجري البحث عنها وانتشالها تباعا
متحف سفينة فاسا في ستوكهولم مشروع سياحي لأحدى تلك الغوارق
طيلة الالف عام الاخيرة شهد بحر البلطيق مئات المعارك والحروب بين مختلف القوى البلطيقية بل واحيانا مع قوى من خارج المنطقة، ولكثرة ما حصل فيه من احداث ومتغيرات عسكرية وسياسية تغطي مياه البلطيق عشرات الآلاف من الغوارق، معظمها سفن قديمة لا زالت تحتفظ بهياكلها وما تحمل من كنوز وجواهر ومعدات عسكرية من ذلك الزمان، بل حتى في القرن العشرين ايضا تعرضت قوافل كبيرة تصل لعشرات السفن في الحربين العالميتين الاولى والثانية، قبالة ستونيا وحدها اغرقت مرة واحدة اكثر من ثلاثين سفينة عام 1941، هناك ايضا هياكل غواصات و طائرات سقطت في فترات سابقة.
المملكة السويدية لها تجربة مهمة جدا عن تلك الغوارق، هناك على شواطئ ستوكهولم بني خصيصا فوق هيكل لسفينة فاسا التي انتشلت من قاع البحر، ويعد المتحف حاليا من اهم اماكن الجذب السياحي في ستوكهولم، بنيت سفينة فاسا في عامي “1626 – 1628” لحساب الملك “غوستاف الثاني أودولف” ملك السويد الذي كان يسعى للسيطرة على بحر البلطيق في تلك الفترة.
الملك السويدي طلب تصميم سفينة حربية ذات شكل ملكي من الخارج بزخار،ف تيجان وفخامة وما شابه ذلك، وفي نفس الوقت معدة بما يلزم من اجل المهام القتالية، ذلك جعله يتدخل شخصيا في تصميم السفينة، ولم تنفع معه نصائح المهندسين بخطأ بعض المطاليب العبثية التي يفرضها الملك الذي أراد للسفينة ان تكون الاقوى في العالم، ولكنه دون ان يشعر كان يضع لها نهايات تراجيدية بامتياز، اكتملت السفينة بعد سنتين من البناء وابحرت في العاشر من آب عام1628 ، لكنها غرقت قبالة الموانئ السويدية، وفي عام 1961 جرت عملية انتشال السفينة الغارقة بعد 333 عاما على غرقها! كانت العملية مغامرة كبرى تمثلت في برفع هيكل مترهل من اعماق القاع! لكي يستقر على الشاطئ بالقرب من مكان غرقها، وبني حولها متحف صمم بناء على حجم السفينة.
تقول المادة الفلمية التي توثق بشكل دقيق مراحل اكتشاف السفينة وانتشالها: إن “فريق العمل بقي لمدة 17 عاما يرش على السفينة مواد شمعية، فقط من أجل ان تحافظ على تماسكها! في صيف عام 1990 افتتح المتحف، وبعده بمدة قصيرة تحولت تلك المغامرة المحسوبة الى مشروع تجاري يزوره سنويا قرابة المليون سائح، وفي عام 2011 احتفل السويديون بمرور خمسين عاماً على انتشال السفينة فاسا.
ولان التجربة الاولى نجحت واثمرت كثيرا، يحاول السويديون تكرار التجربة مع سفينة اخرى انتشلت عام 2011، وهي سفينة “مارس” احدى كبريات السفن الحربية التي غرقت في بحر البلطيق في ايار عام 156، السفينة تسع 800 مائة شخصا، وبإمكانها حمل مائة مدفع، وتعد اكثر اهمية من سفينة فازا، السفينة المذكورة تخضع حاليا للمعالجة الخاصة من اجل الحفاظ على هيكلها.
التجربة السويدية مهمة ولكن السويد ليست الوحيدة التي تبحث عن الغوارق المغروسة على طول وعرض البحر، بل معظم البلدان المتشاطئة لها محاولات مشابهة، وخصوصا قبالة ستونيا التي تحيطها المياه من جميع الجهات، تم العثور على بعض السفن ويجري البحث عن سفن اخرى اكثر اهمية، الشركات التي ساهمت ببناء خط انابيب الغاز الممتد من روسيا الى المانيا على متداد البحر عثرت على الكثير من تلك الغوارق، وخصوصا قرب جزيرة غوتلاند السويدية التي تقع في قلب بحر البلطيق. كما تم العثور في السنوات الاخيرة ايضا على مجموعة من الغواصات الروسية التي غرقت في الحرب العالمية الثانية. لقد نشطت عمليات البحث في العقدين الاخيرين بعد سقوط الاتحاد السوفيتي والمتغيرات السياسية التي حصلت في البلدان الموالية له، حيث كانت ترفض القيام بأي مهام من هذا النوع.
عام 2010 عثر قبالة جزيرة آلاند “آهفنن ما” الفنلندية على سفينة غارقة تحمل شحنة كبيرة من الشمبانيا مهداة من ملك فرنسا لويس الرابع عشر ارسلها الى البلاط الروسي في مطلع القرن التاسع عشر. لقد استخرجت تلك الزجاجات من اعماق البحر وقد احتفظت بنكهتها نتيجة انخفاض درجات الحرارة، بيعت تلك الزجاجات حينها على انها الشمبانيا الاقدم في العالم.
في ايار عام 2014 عثر فريق غوص فنلندي في اعماق غرب خليج فنلندا وهو جزء من بحر البلطيق على حطام الغواصة الالمانية U26 التي فقدت منذ آب عام 1915.
في تسعينيات القرن الماضي ايضا تم تحديد موقع حطام السفينة الحربية الفنلندية ايلماري “Ilmarinen” التي غرقت خريف العام 1941 في الحرب العالمية الثانية بسبب انفجار لغم بحري وغرقت في قاع البحر قرب جزيرة اتو الواقعة اقصى جنوب غرب فنلندا. غرق السفينة ادى الى لغرق حوالي 271 جنديا استقرت في قاع البحر على مسافة 81 مترا. السفينة تم تصنيعها في حوض توركو جنوب فنلندا عام 1931 وعملت ضمن الاسطول الفنلندي لحوالي 10 سنوات.
عام 1916 اعد التلفزيون الفنلندي تقريرا مصورا سفينة Wellamo البخارية التي غرقت قبالة السواحل الفنلندية يوم 29 آب 1916 بمناسبة مرور مائة عام على غرقها. حيث تعرضت لهجوم من قبل الغواصة U47، السفينة كانت في رحلة من مدينة سندسفال السويدية الى مدينة كوكولا الفنلندية. السفينة التي صنعت عام 1898 تم العثور بداية على هيكها في العشرينات من القرن الماضي، اهمل الموضوع نتيجة لتراكم الاحداث انذاك وضاعت اوليات الموقع، وبعد محاولات البحث عنها عثر عليها فريق من الغواصين قرب مدينة كوكولا عام 1977. طول السفينة حوالي 60 مترا وعرضها يصل لحوالي 10 مترا. في جولات غوص تمت بمناسبات مختلفة تم استخراج بعض المقتنيات منها وعرضها في مكان خاص.
اعلنت مجموعات ابحاث فنلندية معنية بتعقب ومتابعة هياكل السفن الغارقة في بحر البلطيق انها عثرت على حطام سفينة حربية هولندية تعود للقرن الثامن عشر غارقة في خليج فنلندا ببحر البلطيق. وبحسب المجلس الوطني الفنلندي للآثار فان هيكل السفينة تم العثور عليه منذ عدة سنوات لكن تحديد هوية السفينة استغرق وقتا طويلا حتى تم معرفة هوية السفينة مؤخرا بفضل عالم التاريخ بيتر سوارث. ذلك الاكتشاف النادر والملفت وجد فوقه عشرات المدافع التي لازالت في مكانها الصحيح. السفينة التي صنعت في مدينة ميديمبليك الهولندية غرقت عام 1715.
ان غوارق بحر البلطيق كثيرة ومثيرة في نفس الوقت، بوتيرة تصاعدية تستمر عمليات البحث والانتشال لبعض تلك الغوارق من اعماق البحر، من العوامل المشجعة للبحث عن السفن ان متوسط عمق البلطيق حوالي 60 مترا، كما أن بحر البلطيق يتميز بعدم وجود الديدان التي تتعذى على أخشاب السفن، كتلك التي تكثر في المحيطات المالحة، اضافة الى درجات الحرارة المنخفضة في معظم فصول السنة. البحث عن الغوارق لا يختزل في غايات سياحية بحتة بل هناك عوامل اخرى مهمة تدخل على الخط، من اهمها ان تلك الغوارق مصدر تاريخي مهم جدا يضم الكثير من التفاصيل التي اهملها التدوين.
جمال الخرسان