تتقاسم شواطئه اكثر بلدان العالم عمقا ثقافيا.. بحر البلطيق.. ثقافة وكهرمان
البحر افق مفتوح، البحر اسرار وكائنات وعوالم خفية ومعلومة، البحر جمال وزرقة وغرام، البحر غضب وقوة وعنفوان، هكذا هي البحار وهكذا هو البلطيق ثاني أكبر أحواض المياه المالحة في العالم بعد البحر الأسود، يسميه الفنلنديون ايتا مري “بحر الشرق” وفي نفس المعنى يسميه الالمان، اما اللاتفيون فيطلقون عليه “بحر الكهرمان”. ويعود اطلاق مسمى ” بحر البلطيق” على تلك الرقعة المائية الى آدم من بريمين أحد أشهر نبلاء العصور الوسطى في المانيا نسبة إلى جزيرة واقعة فيه تسمى بالتيا.
تشاطيء البلطيق تسعة بلدان بكبيرها وصغيرها جميعا تشكل عائلة واحدة لهذا الكيان الانيق، هناك المانيا روسيا السويد، فنلندا، استونيا، الدانمارك، لاتفيا، ليتوانيا، وبولندا، لكل من تلك البلدان طلة بنكهة خاصة على مياه البلطيق الزرقاء، ولبعض البلدان جزر او حتى ارخبيلات في اعماق البلطيق، كما هو الحال مع السويد، فنلندا والدانمارك. فهناك ارخبيل “كوتلاند” بعاصمته جزيرة “فيسبي” الساحرة اكبر الجزر في بحر البلطيق وتخضع لسيادة مملكة السويد، كذلك ارخبيل “اولاند” او “آهفننما” الواقع وسط البحر ويخضع للسيادة الفنلندية، كذلك الحال بالنسبة للدانمارك التي لها ارخبيل ساحر متناثر قبالة سواحلها من جهة البلطيق. الالمان يطلون على البلطيق بجزيرة روجن، ذات الشواطيء الواسعة التي تمنح المصطافين فيها اوقاتا مثالية من اجل الحصول على متعة بحرية، سباحة، غطسا، قيادة المراكب الشراعية، جميع الاحجار الثمينة وغيرها من الأنشطة الساحلية المختلفة.
ورغم ان البلطيق مرتبط بالمحيط الاطلسي عبر خليج كاتيغات، الا ان المياه فيه مياه مسوسة والماء المسوس هو الذي تكون ملوحته أعلى من ملوحة المياه العذبة، ولكنه لا يصل لدرجة ملوحة ماء البحر، ويتأتّى غالبا من اختلاط مياه البحار بمياه الأنهار.
مما يميز هذا البحر انه حلقة جغرافية تمسك شمال اوروبا وشبه القارة الاسكندنافية بالعديد من بلدان اوروبا الشرقية، فيه تنوع غني جدا، فيه الاسكندنافيون المتألقون دائما، وفيه الالمان بكل ارثهم الفلسفي والحضاري العريق، كذلك روسيا واطلالتها المميزة على البلطيق من خلال عاصمتها الثقافية “سان بطرس بورغ”، وهكذا بالنسبة للبلدان الاخرى المشاطئة لذلك البحر.
لقد كانت بلدان البلطيق كريمة جدا في عطائها العلمي، الثقافي، الفني وكذلك في المجالات الاخرى، من هناك كان كارل ماركس، أوسفالد شبينغلر، إيمانويل كانت، يوهان فولفغانغ فون غوته، هيرتا مولر، فريدريك نيتشه، فريدريك أنجلز، آرثر شوبنهاور، كاسبار دافيد فريدريش، كذلك بيتر إليتش تشايكوفسكي، سيرغي غوروديتسكي، ليف تولستوي، انطون تشيخوف، لينين ستان سلافسكي، قسطنطين ستانيسلافسكي، فيودور دوستويفسكي، مرورا بجورج اوغست والين، سيلانبا، سيبيليوس، ميكا والتري، الياس لونرت، كيمي رايكونن، مارتي آهتساري، نوبل، فرنر فون هايدنستام، أوغست ستريندبرغ، هاري مارتنسون. مرورا بكارل يوهان تورنبرج، وليس انتهاءا بكونستانتي غولتشينسكي، نيكولاس كوبرنيكوس، فريدريك شوبان، هنريك بونتوبيدان، يوهانس فلهلم ينسن، سورين كيركغور، ينس لاسن رازموسن. القائمة طويلة والاسماء كثيرة ومشهورة ومؤثرة جدا في الثقافات العالمية. ان عائلة البلطيق متنوعة وكثيرة وممتدة على امتداد الافق البلطيقي العريض.
في ثقافات البلدان البلطيقية مساحة عريضة جدا وتنوع غزير لعالم الاساطير القديمة، فهناك الميثيولوجيا النوردية الاسكندنافية، وملحمة “ايدا” الشهيرة التي توضح كيف خلق العالم من الماء والثلج، الكاليفالا اوديسة فنلندا الشهيرة، اساطير الاله ” ثور” الذي له في كل شعب من شعوب البلطيق حضور بطلة ونكهة تميزه من شعب لاخر! وهناك اساطير العوالم التسعة ” أسكارد، فاناهيمر، يوتنهايم، مدكارد، موسبلهايم، نيفلهايم، ألفهايم، سفارتالفهايم، هيلهايم” كذلك شجرة إغدراسيل التي تجمع هذه العوالم جميعا، فعلى قمتها يوجد عالم أسكارد وعند أحد جذورها يوجد عالم نيفلهايم، ويوجد عالم موسبلهايم على الجذر الآخر.
البلطيق ليس بحرا تتشاطأ عليه بلدان تسعة فحسب بل هو اضافة الى ذلك واحة للتجارب الثقافية والفنية وتلاقح العديد من الرؤى والافكار، البلطيق احتضن العديد من المؤسسات الدولية مثل مجلس دول بحر البلطيق، ودول النوردك، وغيرها من المؤسسات الدولية المعنية بتنظيم العلاقات بين بلدان البلطيق اضافة الى ذلك ساهم البلطيق باحلال السلام في العديد من بلدان العالم التي تعاني صراعا واحتقانا داخليا مزمنا، من هنا حلت مشكلة اندنوسيا والبلقان، كما ساهم البلطيق في احلال الامن في العراق من خلال ” لقاءات هلسنكي”. على المستوى الاوروبي ايضا فإن منظمة الامن والتعاون في اوروبا ولدت في السبعينات من القرن الماضي في هلسنكي وهي احدى عواصم بحر البلطيق.
وكما عرف البلطيق بأفقه الثقافي والفني الواسع والمتنوع، فإن في البلطيق كنوز من الاحجار الكريمة يلفظها الى الشواطيء بين الحين والاخر.. فمن البلطيق يستخرج حجر الكهرمان “العنبر الأشهب” الذي يعرف باسم «ذهب البلطيق». ولان موطنه في الغالب هناك فإن الكهرمان يعد رمزا وطنيا وثقافيا في بعض بلدان البلطيق.
إن ذهب الشمال قديم قدم التلال والأشجار والبحار، لأنه عبارة عن راتنج “صمغ” متحجر من أشجار صنوبرية قديمة ومنقرضة، تحجر الراتنج اللزج وسقط على الارض بعد موت الاشجار وسقوطها بقي في القاع لمدة تترواح بين عشرين مليون الى ثلاثين مليون عاما، تحجر الراتنج ليصبح الحجر الكريم ذا اللون الأصفر اللامع المعروف باسم الكهرمان.
ستوكهولم- جمال الخرسان