لماذا قتل القنصل الفنلندي في بغداد عام 1982؟ وهل لمقتله علاقة بالتجسس؟
نشرت صحيفة “هلسنكي صانومات” الفنلندية متابعة صحفية تتعلق بمقتل القنصل الفنلندي “اينو ارتي” في بغداد عام 1982، ادناه ملخص لما نشرته الصحيفة:
ـ في أيار عام 1982 نشرت صحيفة هلسنكي صانومات خبرا قصيرا عن مقتل القنصل الفنلندي في بغداد اينو ارتي، مسؤولون في الخارجية آنذاك اكدوا انهم يتابعون القضية. بعد أسبوعين كتبت صحيفة أخرى تدعى “التا صانومات” عن ذلك خبرا اشارت فيه بان القتل كان بدافع الغيرة. رسميا فان القنصل قتل بتاريخ 24 نيسان عام 1982. الملفت والغريب انه ومنذ قرابة الأربعين عاما على الحادثة لم ينشر أي شيء عن الحادثة!! استمر الحال حتى اذار عام 2021 حينما خصص الصحفي العراقي “ديار العمري” احدى حلقاته من برنامج “قصة المخابرات العراقية” عبر قناته على اليوتيوب خصصها للشركات الفنلندية.
ـ العمري قدم البرنامج باللغة العربية دون وجود ترجمة من هنا لم يحظ البرنامج باهتمام كبير من قبل الجهات الفنلندية. أهمية الحلقة ليس فقط لانها تتحدث عن متابعة المخابرات العراقية للشركات الفنلندية بين الأعوام 1981ـ 1984 بشكل مفصل من اجل مكافحة عمليات تجسس يقوم بها بعض الفنلنديين لصالح بلدان أخرى منها إسرائيل، بل إضافة الى ذلك فانها تتطرق الى أسباب مقتل القنصل الفنلندي اينو ارتي. العمري اكد في اتصال مع هلسنكي صانومات ان مصدر المعلومات شخصان شاركا في تلك العملية، احدهما ضابط المخابرات العراقي “مسؤول العملية” يدعى مازن ميخائيل “ربما يكون الاسم حركي”.
ـ مطلع الثمانينات كان العراق يخوض حربا ضد ايران لكن رغم ذلك كان هناك حوالي 2000 فنلنديا في بغداد اغلبهم عاملون في مجال البناء إضافة الى عائلاتهم. الفنلنديون انجزوا الكثير من المشاريع في العراق، بينها مشروع مهم جدا وهو بناء عدة ملاجىء نووية في بغداد نهاية العام 1981. لماذا ذلك المشروع؟ هذا السؤال يمثل أهمية كبيرة جدا لإسرائيل. هل ينوي العراق الانتقام من إسرائيل نتيجة الضربة التي وجهتها للمفاعل النووي العراقي صيف العام 1981؟ ام هناك مشروع اكبر؟
ـ نهاية العام 1981 قامت المخابرات العراقية بعملية تسمّى “كيوستي 2” لمكافحة التجسس، أراد العراق معرفة ما الذي يمكن ان تحصل عليه إسرائيل من معلومات عبر الفنلنديين؟ والهدف الأساسي للعملية هو فنلندي يسميه العراقيون كيوستي، يعمل بمنصب جيد في شركة فنلندية ويتجسس لصالح الموساد. كيوستي تزوج عراقية كانت تعمل لصالح المخابرات العراقية منذ العام 1978 وكانت عنصرا مهما من اجل متابعة تحركات زوجها.
ـ الذراع الثاني من العملية كان يتطلب متابعة السفارة الفنلندية في بغداد، من هنا حاولت المخابرات العراقية التحرك على نائب القنصل في السفارة الفنلندية اينو ارتي، هذا الاخير من مواليد هلسنكي 1938، دخل الدراسات الجامعية لكنه لم يكمل مشواره فيها، ابوه الذي عمل في الشرطة سابقا ساعده من اجل الحصول على عمل في مجال الشرطة حتى العام 1963، بعد ذلك تحول للعمل في وزارة الخارجية، عمل في السفارة الفنلندية في نيجيريا، بين الأعوام 1965ـ 1974 عمل في السفارة الفنلندية بروما. نقل اينو ارتي الى بغداد عام 1980 بعمر الـ42 عاما.
ـ وفقا لما ذكره البرنامج فان المخابرات العراقية عرفت انه مثلي الجنس، وفرت له ما يريد مقابل الحصول على معلومات، بحسب هلسنكي صانومات فان اينو ارتي لم يكن متزوجا ولم يكن يتستر على مثليته الجنسية.
ـ كان اينو ارتي مهما للمخابرات العراقية، لانه وفقا لقناعة المخابرات العراقية مرتبطا بالمخابرات الفنلندية. إضافة الى انه كان يعد أسبوعيا تقارير امنية تحرص المخابرات العراقية على الاطلاع عليها، رغم ان جهات فنلندية تؤكد بان كتابة التقارير هي من صلاحيات السفير ومكتبه، لكن ربما يكون عمله في كتابة التقارير جزء من مهماته السرية. تم نصب شبكة تنصّت وكاميرات في مسكن اينو ارتي ببغداد. كان يسهل للمخابرات العراقية الاطلاع على البريد الدبلوماسي الفنلندي قبل ان يتم رزمه، وكذلك تم فك الشفرة السرية، لكن ذلك بحسب البرنامج ليس مفيدا لان المخابرات العراقية لم تحصل على مترجم فنلندي يستطيع معرفة مضمون الوثائق!
ـ الصحيفة التقت بزملاء لاينو ارتي عملوا معه في روما وبغداد مثل الدبلوماسية الفنلندية “Kaija Ilander”، هذه الأخيرة تشير الى انه كان لطيفا، انيقا جدا واجتماعي. هذا الراي منسجم مع حديث سفير فنلندا في روما “Timo Jalkanen” الذي رافق ارتي هناك للفترة 1972ـ 1974.
ـ كل شيء سار على ما يرام حتى ليلة مقتل نائب القنصل الفنلندي 24 نيسان 1982، في مسكنه حينما كان حاضرا هناك عشيقه إضافة الى عراقي اخر، حصل شجار بينهم بالسلاح واطلقت رصاصة بالخطا فقتلت اينو ارتي. كان مقتل القنصل بمثابة كارثة للمخابرات العراقية. الصحيفة تنقل عن بعض العاملين بمشروع الملاجىء النووية من الفنلندية اكدوا لها بانهم تداولوا لاشهر مقتل اينو ارتي، ما تم تداوله بينهم ان عشيقه قد قتله.
ـ حينما نشر خبر مقتل اينو ارتي في وسائل الاعلام الفنلندية انزعج العراق من ذلك، تم استدعاء السفير الفنلندي وعرض عليه فيلم مقتل اينو ارتي وطلب منه عدم اثارة الموضوع. وبما ان القصة محرجة للجانب العراقي والفنلندي أيضا كانت المصلحة تقتضي ان يتم طي تلك الصفحة بهدوء. بحسب البرنامج فان السفير الفنلندي آنذاك “Håkan Krogius” اتصل برئيس تحرير هلسنكي صانومات “Heikki Tikkanen” وابلغهم ان الحادث عرضي وان القصة لا تستحق المتابعة. السفير الفنلندي توفي عام 2007، ورئيس التحرير توفي عام 2012. لكن مدير التحرير بصحيفة هلسنكي صانومات آنذاك “سيبو كيفري” يؤكد بانه سمع عن اتصال السفير هيكي برئيس التحرير.
ـ بعد مقتل اينو ارتي بفترة قرر العراق انهاء العملية، تم القاء القبض على الفنلندي كيوستي، انكر التهمة بداية ثم اعترف بها لاحقا، لكن اعترف بانه يعمل لصالح الناتو وليس لصالح إسرائيل. ولان القانون العراقي يحكم بالاعدام على الجاسوس كما هو الحال مع الصحفي بازوفت عام 1990 فقد أسهمت تدخلات صالح مهدي عماش آنذاك سفير العراق في فنلندا أسهمت بالاكتفاء بطرد كيوستي من العراق بعد موافقة صدام حسين باعتبار ان العلاقات مع فنلندا تستحق الاهتمام، وهكذا تم طرده بتاريخ 15 كانون الثاني عام 1984. وتركت في حقيبته عبارة “مع تحيات المخابرات العراقية”.
ـ الكثيرون ممن عاصروا القصة توفوا لانها حصلت قبل أربعين عاما تقريبا، كما ان الوثائق المتعلقة بها لن يتم الافراج عنها من قبل الخارجية الفنلندية الا عام 2032 أي بعد خمسين عاما. لكن خبراء امنيين اكدوا لهلسنكي صانومات ان القصة مقبولة.
ـ الصحيفة تشير الى ان التسمية التي اطلقها العراقيون ” Kiusti” على الاغلب يقصد بها الاسم “Kyösti”، وربما أساسا هو اسم رمزي. هلسنكي صانومات حصلت على معلومات رجل فنلندي تنطبق عليه اغلب التفاصيل التي ذكرت في البرنامج لكنها لا تنشر اسمه طالما ان قصة التجسس لازالت مجرد اتهام، الرجل توفي في كل الأحوال.