منطقة كاريالا … ضحية الصراع السياسي والأمني على حدود الاتحاد السوفيتي
في جنوب شرق فنلندا على حدود الاتحاد السوفيتي تقع مقاطعة كاريالا التي تمثل لوحدها رقعة جغرافية وثقافية واحدة لها ما يميزها عن محيطها الروسي والفنلندي وان كانت تاثرت واثرت في الجانبين. عدد سكان المنطقة في النصف الأول للقرن العشرين 400 الف نسمة، أي حوالي 11% من مجموع سكان فنلندا آنذاك. للمنطقة فضل كبير في اغناء التجربة الأدبية والثقافية الفنلندية. هذه المنطقة انقسمت لاحقا الى ضفتين بسبب الصراع السياسي وهوس الامن الاستراتيجي للاتحاد السوفيتي. في اب عام 1939 عقد الاتحاد السوفيتي والمانيا اتفاقية “مولوتوف-ريبنتروب” عدم اعتداء. نصت الاتفاقية على بقاء المانيا والاتحاد السوفيتي على الحياد اذا ما تعرض أي منهما لهجوم من قبل طرف ثالث، والمثير للجدل ان الاتفاقية تضمنت بنودا سرية بموجبها تقاسم الطرفان النفوذ في منطقة البلطيق واروبا الشرقية، حيث أصبحت جمهوريات البلطيق الثلاث (ليتوانيا، استونيا ولاتيفيا) تحت السيطرة السوفيتية، إضافة الى جزء من بولندا. الاتفاقية تضع فنلندا تحت النفوذ السوفيتي، بموجب تلك الاتفاقية وجه الاتحاد السوفيتي انذارا لبلدان البلطيق بضرورة انشاء قواعد عسكرية سوفيتية على اراضيها، قبلت تلك البلدان ورفضت فنلندا العرض. فشن الاتحاد السوفيتي حربا على فنلندا في المقابل خسرت تلك البلدان استقلالها وتحولت الى دول شيوعية. ان الاتفاقية التي استمرت حتى العام 1941 مهدت لحرب الشتاء السوفيتية على فنلندا والتي عانى فيها الجيش الأحمر كثيرا. لكن السوفيت صادروا جزءا من مقاطعة كاريالا وأجزاء أخرى.. سكان المنطقة نزحوا كليا الى الداخل الفنلندي. لاحقا حاولت فنلندا التحالف مع المانيا من اجل استعادة تلك المنطقة وانتهى المطاف لخسارة فنلندا وألمانيا في الحرب العالمية الثانية فخسرت فنلندا كاريالا وأجزاء من حدودها الشمالية وقد حسم النزاع في معاهدة باريس عام 1947.
الظروف تغيرت في نهاية الثمانينات وكان بإمكان فنلندا ان تسترجع كاريالا في مقابل مادي كما ذكرت مصادر عديدة فنلندية وروسية لكن ذلك لم يحصل. نائب وزير الخارجية الروسي الأسبق “أندريه فيودوروف” يذكر في حوار مع صحيفة هلسنكي صانومات نشر يوم 21 تموز 2019 ان الظروف الصعبة التي كانت تعيشها روسيا عام 1991 والميزانية الخاوية انذاك دفعتها الى تقديم عرض لفنلندا بإعادة منطقة كاريالا “الفنلندية التي صادرتها روسيا في الحرب العالمية الثانية” مقابل 15 مليار دولار. كان ذلك فترة وصول يلتسين للسلطة في تموز 1991. ابلغ كبار المسؤولين الفنلنديين بذلك، كان المبلغ في حسابات الفنلنديين كبير جدا. كان الفنلنديون مترددين لان تكلفة بناء البنية التحتية لتلك المنطقة بما يتناسب مع بقية المدن الفنلندية يمثل تحديا كبير جدا لدولة صغيرة مثل فنلندا.
في ذات الصدد ذكر الدبلوماسي الفنلندي السابق “Jukka Seppinen” في كتابه “Kun presidentti Koivisto Karjalan palautuksen esti”، أي لماذا منع الرئيس الفنلندي كويفستو عودة كاريالا الى فنلندا.
يشير لذلك بوضوح أيضا، ان أوضاع الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات كانت سيئة اقتصاديا، وهناك نزعة الى التمرد في العديد من المناطق.. المكتب السياسي للحزب الشيوعي اتخذ سياسة إيجابية تجاه بلدان البلطيق، فنلندا وكذلك كاريالا.اللحظة المناسبة بحسب المؤلف لاستعادة كاريالا كانت خريف العام 1991 حينما دخل البلدان مفاوضات تعديل تفاهمات واتفاقيات سابقة ” المعاهدة الفنلندية السوفيتية لعام 1948″، لكن مماطلة الرئيس الفنلندي حالت دون ذلك.. الرئيس لم يكن يرغب باعادتها واعلن في بعض المرات ان فنلندا ليس فيها كثافة سكانية لتشغيل هذه المساحة. المؤلف يضيف بان سببا اخر اكثر أهمية من وجهة نظره اذ يعتقد بان الرئيس كويفستو لم يكن يرغب بان تعود مدينة فيبوري التي هي جزء من كاريالا الى فنلندا لكي لا تنافس مدن غرب فنلندا، فيبوري كانت في الثلاثينات مدينة فنلندية متميزة. المؤلف يعتقد ان فكرة إعادة كاريالا الى فنلندا سلميا كانت متداولة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت ركيزة في قناعات الرئيس اروهو كيكونن.
الظروف لاحقا تغيرت من وجهة نظر روسيا بعد مجيء بوتين الباحث عن مجد قومي لبلاده، رئيسة فنلندا السابقة تاريا هالونن اثارت الموضوع عام 2004 مع بوتين لكنه رفض الفكرة بشكل واضح. اما بالنسبة للرئيس الحالي ساولي نينستو فانه لم يكن يرغب بطرح الموضوع للتفاوض.. لكنه اعلن بان فنلندا جاهزة للتفاوض فيما لو ارادت روسيا ذلك. لتبق قصة كاريالا احدى ملامح القلق السياسي والأمني المزمن على طرفي الحدود للمعسكرين الشرقي والغربي. ان كاريالا ملف سياسي اكبر بكثير من امنيات وطموح السكان البسطاء!
جمال الخرسان