اقتصاد

الاضراب في فنلندا تضامن العاملين مع العاطلين عن العمل، وتصفية حسابات مع الحكومة

 

احدى اهم مفاصيل التاريخ بالنسبة للشعب الفنلندي هو مرحلة الحرب الاهلية التي حصلت عام 1918 والتي أدت الى مقتل حوالي 38 الفا وتركت ورائها دمارا كبيرا لازالت بعض اثاره واضحة في معالم المدن حتى اليوم، وبعد سلسلة من المراجعات لتلك الحرب تبين ان التفاوت الطبقي، الغنى والفقر الفاحش دفع للكراهية والانتقام بين طبقات المجتمع في اطار سياسي اجتماعي أوصل الأمور الى صدام دموي. ولكي لا تتكرر تلك التجربة المرة هناك حساسية مفرطة من قبل منظمات المجتمع المدني، جماعات الضغط والقوى الناشطة بين الفنلنديين تجاه القوانين التي من شانها تغذية التفاوت الطبقي. في هذا الاطار وفي اطار تصفية الحسابات أيضا بين المعارضة والحكومة يمكن وضع الاضراب الكبير الذي نظم يوم 2 شباط من عام 2018 وادى الى شلل في الحياة العامة بهلسنكي وكبريات المدن الفنلندية حيث توقفت معظم وسائل النقل عن العمل، عطلت الموانيء وتاثرت العديد من القطاعات الأخرى استجابة لدعوة النقابات العمالية التي نظمت الاضراب.

توّج المنظمون للاضراب حركة الاحتجاجات بمظاهرة كبيرة في ساحة الشيوخ وسط هلسنكي شهدت فعاليات مختلفة من بينها حوارات ثنائية على منصة الاحتجاجات امام الجمهور بين قيادات مؤيدة للحكومة الحالية وبين زعامات للمعارضة ساندت المؤيدين للاضراب، السجال بث عبر مختلف وسائل الاعلام الفنلندية مباشرة. وجاء الاضراب احتجاجا على القانون الجديد الذي أصدرته الحكومة في كانون الأول عام 2017 واقره مجلس النواب يقضى بتطبيق سلسلة من الإجراءات الشديدة تجاه العاطلين عن العمل ودفعهم لفعالية اكبر بهدف الحصول على عمل، وبخلافه يتعرض العاطل عن العمل الى عقوبة من خلال خصم نسبة مئوية من معونة العاطل عن العمل. هذه المعونة يحصل عليها جميع العاطلين عن العمل كجزء من إجراءات الضمان الاجتماعي وضمان الحد الأدنى من العيش وفقا للدستور الفنلندي. هذا الاضراب هو الأهم في دورة الحكومة الحالية التي شهدت حركة احتجاجات كبيرة أيضا خريف العام 2015 بعد اشهر على تشكيلها، حينما اقرت خطة للتقشف ساهمت بشكل او باخر في تحسين الأوضاع الاقتصادية ونمو ملحوظ في الاقتصاد الفنلندي.

ان تتويج حركة الاحتجاجات ضد الحكومة بوقفة استثنائية في مجلس الشيوخ هي تقليد رمزي دأبت عليه معظم الإضرابات التي شهدتها فنلندا منذ نهاية القرن التاسع عشر، حينما كان الفلاحون وبقية قطاعات المجتمع العاملة تعاني كثيرا من اجل الحصول على قوت يومها ومن اجل إرساء الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية المفقودة آنذاك.

في هذا الصدد شهدت فنلندا سلسلة من الإضرابات للمزارعين والفلاحين بهدف تحسين الأوضاع المعيشية، خصوصا في فترة ما بين الأعوام 1903ـ 1906، وما رافقها أيضا من احتجاجات على سياسة الترويس الروسية في فنلندا وكانت ساحة مجلس الشيوخ التي بنيت في بدايات القرن التاسع عشر فترة الاحتلال الروسي شاهدا حيا على تلك المرحلة. تلك الساحة احتضنت أيضا الاضراب الشهير الذي نضم عام 1917 بهدف جعل فترة العمل ثمان ساعات، وكان للفلاحين أيضا مشاركة بارزة فيه. وهو مرحلة مهمة في اطار صراع الطبقات الفقيرة مع الأغنياء والذي أدى لاحقا الى نشوب الحرب الاهلية الفنلندية. لاحقا أيضا شهدت ساحة مجلس الشيوخ احتجاجات المضربين في آذار عام  1956، احتجاجا على سوء الأوضاع الاقتصادية خصوصا سيما وان فنلندا ملزمة بدفع تعويضات اقتصادية للاتحاد السوفيتي وفقا لما نصت عليه اتفاقية السلام بعد الحرب العالمية الثانية. ناهيك عن اضراب عمال المعادن الذي نضم عام 1971، ثم اضراب نقابات المعلمين الذي نضم في مختلف انحاء فنلندا عام 1984.

تلك السلسلة الطويلة من الإضرابات والنشاطات الاجتماعية كانت تهدف لمعالجة الفجوة بين طبقات المجتمع، وساهمت الى حد كبير في إرساء دعائم ضمان اجتماعي مميز جدا، تم تنضيجه عبر عشرات السنين بعد سلسلة من الخطوات طوال النصف الأول للقرن العشرين، وتاتي هذه الاحتجاجات بالأساس للحفاظ على مكتسبات هذا الضمان وعدم المساس بمداخيل ذوي الدخل المحدود. هذه المعطيات المهمة لم تخل من توظيف سياسي من قبل المعارضة التي وجدت في ذلك استثمارا مشروعا في تصفية حساباتها مع الحكومة وهذه أصول اللعبة الديمقراطية.

 

 

جمال الخرسان

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى