تسريبات صحيفة هلسنكي تفتح المواجهة بين متطلبات امن فنلندا وحرية الاعلام فيها
بهدف التاثير الإيجابي على الجدل الدائر حول قانون الرقابة الأمنية في فنلندا الذي يفترض ان يتم تحديثه كليا قبل الانتخابات البرلمانية المقرر اقامتها في شهر أيار عام 2019 اعدت صحيفة هلسنكي صانومات اكبر صحف فنلندا واعرقها تحقيقا مثيرا للجدل حول نشاط مركز “Puolustusvoimien tiedustelukeskus” احد اذرع الاستخبارات العسكرية والتابع لمنظومة الدفاع الفنلندية، يضع ذلك المركز ضمن أهدافه التجسس على روسيا ومتابعة نشاطاتها امنيا.
ذلك المركز تاسس مطلع العام 2007 وتم إيقافه تحت هذا المسمّى في اطار الاستراتيجية الأمنية التي وضعت لمجمل المنظومة الأمنية والدفاعية في فنلندا للفترة 2012 ـ2015 والتي اخذت بعين الاعتبار تراجع الوضع الاقتصادي من جهة وإعادة تحديث المنظومة العسكرية من جهة ثانية على خلفية احداث شرق أوروبا. منذ العام 2014 اصبح جزءا من القيادة العامة لمنظومة الدفاع الفنلندية، لكنه لازال يعمل تحت مسمّى اخر بشكل مستقل من اجل ذات الأهداف.
الصحيفة نشرت أولى حلقات التحقيق يوم 12 كانون الأول عام 2017 والذي ركزت فيه على نشاط احد فروع المركز المذكور والذي يقع اطراف مدينة يوفاسكولا “الواقعة وسط فنلندا”، حيث وصفت الصحيفة ذلك المركز بانه اكثر الأماكن سرية في فنلندا. وقد ارفقت مع التحقيق وثائق موسومة بانها “سرية للغاية” حول نشاط ذلك المركز.
ذلك التحقيق اثار جدولا واسعا في فنلندا، ردة الفعل الرسمية كانت صادمة بالنسبة للصحيفة، حيث قامت وزارة الدفاع بتحريك دعوى قضائية ضد الصحيفة، كما تمت مداهمة بيت الصحفية “لاورا هالمينن” التي اعدت التحقيق. ناهيك عن المواقف الرسمية التي اعتبرت ذلك النشاط الصحفي يضع الامن الفنلندي على المحك ويؤثر سلبا على العلاقة مع روسيا. رغم ان بعض المتابعين يرون ان هذا السقف من المراقبة والعمل الأمني مشروع بين البلدان وخصوصا في منطقة البلطيق، ففي المانيا نشرت قبل عام وثائق عن تجسس المانيا لمكالمات بين روسيا وفنلندا ولم تتاثر علاقات البلدان الثلاث ببعضها نتيجة تلك التسريبات. وكذلك يتم الكشف بين فترة وأخرى عن نشاطات تجسسية روسية في عموم منطقة البلطيق.
في كل الأحوال فإن نشر وثائق بهذا المستوى من السرية يعد حدثا غير مسبوق في فنلندا رغم وجود تحقيقات صحفية مشابهة كما هو الحال مع تسريب محاضر اجتماعات رئيس الجمهورية الفنلندي مع مسؤولين امريكان قبيل حرب الخليج الثانية، وما احدثته تلك التسريبات من ضجة انعكست على نتائج الانتخابات البرلمانية الفنلندية لصالح حزب الوسط، ثم تطورت القصة لاستقالة رئيسة الوزراء من منصبها على خلفية تلك التسريبات. الا ان سقف السرية في الوثائق السابقة كانت اقل مما عليه الحال الان.
تلك القصة قسمت الراي العام الفنلندي وحتى الوسط الصحفي الى جبهتين، الجبهة الأولى ترى ان هناك تسريب لوثائق موسومة بانها سرية للغاية وتتعلق بالامن الفنلندي، وهذه نقطة غاية في الحساسية سيما اذا كان الامر يتعلق بروسيا. ساسة كبار فنلنديون ذكروا لوسائل الاعلام انهم يطلعون على وثائق من هذا النوع بحضور موفد من الجهة التي تعدها وبعد الاطلاع عليها يرجعونها للموفد الذي جلبها ولا يمكن لهم الاحتفاظ بها فكيف يتسنى ذلك لصحيفة هلسنكي ؟!
اما الجبهة الثانية فترى ان القصة برمتها تدور حول حرية الصحافة وضرورة ان تبقى فنلندا في المراتب الأولى من حيث حرية التعبير عن الراي .. ناهيك عن ان وسيلة الاعلام التي تولت التسريبات هي صحيفة هلسنكي صانومات التي تمثل هيبة الاعلام الفنلندي بحرصها على الالتزام بضوابط المهنة.
وبسبب حدة الجدل الدائر وردة الفعل الرسمية القاسية بعض الشيء توقفت الصحيفة عن نشر الحلقات الأخرى الى اشعار اخر، وذكرت انها تريد فسح المجال امام الجميع من اجل تفهم موقفها ثم تعود لاحقا لاكمال بقية الحلقات. آخر تطورات هذا الملف ان محكمة الاستئناف لا ترى في إجراءات الامن الفنلندي تجاه الصحفية يتعارض مع حق الصحفي في الاحتفاظ بسرية المصدر مما يعني ان المحكمة دعمت إجراءات الامن الفنلندي وردة فعله تجاه تلك التسريبات.
جمال الخرسان