في مخاض وتداعيات الاستقلال الفنلندي
اعتزازا بمرور مائة عام على استقلالها تحتفل فنلندا بشغف هذه الأيام ومعها الأصدقاء من بقية انحاء العالم، قبل مائة عام من الان ارست هذه البلاد الجميلة دعائم استقلالها، نهضت، تعثرت ولكنها كل مرة تعيد تصحيح الأخطاء في مسيرتها الغنية بالتجارب حتى وصلت الى ما وصلت اليه الان، فنلندا تنافس افضل بلدان العالم في مجالات مختلفة، تتصدر قوائم المنافسة كافضل عشر او خمس بلدان على مختلف الصعد خصوصا على صعيد التعليم والرفاهية. الفرحة الباسمة على محيا الفنلنديين الان لم تكن سهلة المنال، لقد عض الاسلاف على الجراح، تحملوا أعباء التاريخ واسقاطات الجغرافيا إضافة لجشع الأغنياء وقادوا مسيرتهم نحو الاستقلال. ولكي نقف على حقيقة ذلك لابد من العودة للماضي قليلا من اجل فهم الظروف التي سبقت، رافقت وتلت مرحلة الاستقلال.
حينما انهت روسيا عام 1809 احتلال السويد لفنلندا الذي طال ستة قرون كانت النخب الفنلندية مهووسة بارساء دعائم هوية فنلندية تميز الفنلنديين عن جيرانهم شرقا وغربا، هوية وان تنفست برئة غربية لكنها تحرص ان تمايز نفسها عن الجميع بما في ذلك الأخت الكبرى السويد. حتى وان كانت هذه الأخيرة هي التي وضعت اللبنات الأولى لمؤسسات الكيان الفنلندي.
حاولت روسيا القيصرية تفهم ذلك في بداية الامر فاسس الكسندر الأول في زيارته الأولى الى فنلندا يوم 27 آذار 1809 المجلس التشريعي لدوقية فنلندا من مدينة بورفو، بصلاحيات اكثر او اقل استمر ذلك المجلس إدارة فنلندا حتى العام 1906.
ان القياصرة الروس الخمسة الذي حكموا روسيا القيصرية وضمنها فنلندا اختلفوا في التعامل مع حساسية الأوضاع. واضافة الى ترسيخ الطبقية وشقاء الطبقة الكادحة بفنلندا مما أدى الى احتقان جماهيري ينفجر بين الحين والأخر وصل الى الحكم في روسيا نيكولاي الثاني الذي عرف بقسوته تجاه الدوقيات التابعة له. هذا الأخير وجّه بممارسة سياسة الترويس التي تهدف لطمس الثقافة واللغة الفنلندية وصهرها بالهوية الروسية، كما قرر في شباط عام 1899 الغاء القومية الفنلندية. قام ايضا بالغاء العديد من القرارات التي تعزز الحكم الذاتي في فنلندا. حارب الممارسات الفنلندية العامة ذات الطابع الوطني، كذلك دمج الجيش الفنلندي بالجيش الروسي، امر بتوقيف اصدار الصحف، وانتهى بمنع التداول الرسمي باللغة الفنلندية، لقسوتها بعضهم اعتقد ان تلك المرحلة هي نهاية فنلندا والهوية الفنلندية التي لازالت فتيّة، دب اليأس في صفوف الفنلنديين ودفع بعضهم لتشكيل مجموعات قتالية تدربت في المانيا تقاتل المحتل الروسي. كانت تسمى في فنلندا باسم Jääkärit .
تدهور الأوضاع الاقتصادية والفقر الذي كان منتشرا في فنلندا إضافة الى تزايد النشاط العمالي في روسيا دفع الفنلنديين للتظاهر من اجل تحقيق العدالة الاجتماعية، والدفع بعجلة الاستقلال الى الامام.
كما نشطت أيضا حركات سياسية مطالبة بالاستقلال ومناهضة الاضطهاد الروسي ومنها جمعية “Kagaali”، التي ضمت نخبة مهمة من المجتمع الفنلندي بينهم السياسي والقاضي إيفيند سفينهود الذي كان يتبوا مناصب مهمة في فنلندا، الذي ابعد الى سيبيريا حيث البرد القارص عقابا له على نشاطه ضد روسيا. سفينهود عاد بعد الاستقلال بطلا قوميا ليقود الدولة الفنلندية بعيد الاستقلال.
القراءة الواقعية لظروف وملابسات الاحداث التي رافقت الاستقلال لا يمكن ان تغفل موقف زعيم الثورة البلشفية لينين الذي حفظ لفنلندا الجميل حينما كان فيها فترة نشاطه الثوري، اذ لو لا موقف لينين المؤيد لاستقلال فنلندا لم يكن ذلك ممكنا في ذلك الوقت على الأقل.
في 6 كانون الأول عام 1917 صوت البرلمان الفنلندي على الاستقلال، واعترفت حكومة روسيا السوفيتية بقيادة لينين بواقع الاستقلال في وثيقة موقعة بتاريخ 13 من الشهر ذاته.
موافقة روسيا على الاستقلال لم تكن نهاية التحدي، تحقيق العدالة الاجتماعية، شكل الدولة هل هو جمهورية ام ملكية؟ هل ستكون حديقة خلفية لروسيا مع شغف ستالين باستعادة المستعمرات القديمة؟ وتحديات أخرى كانت عقبة كؤود في طريق تطور هذه البلاد.
التطورات السياسية بعيد الاستقلال والتفاوت الطبقي دفع الى نشوب حرب أهلية بدات يوم 27/1/1918 وانتهت في 15/5 من نفس العام. وكانت بالاساس بين قوات الديمقراطيين الاشتراكيين “الحمر” المدعوم من روسيا وبين معسكر البيض المناويء للاشتراكيين والمدعوم من المانيا. استطاع الفنلنديون تجاوز تلك المرحلة. ثم تلا ذلك حرب الشتاء وهي جزء من الحرب العالمية الثانية، أطماع ستالين دفعته لشن حربا بهدف استعادة فنلندا ولكنه فشل، استمرت الحرب مع حرب الاستنزاف حتى العام 1945، خسرت فيها فنلندا اجزاءا من أراضيها، ولكنها مقابل ذلك لم تخسر هويتها ولم تستلم للطموح الروسي كما فعلت بلدان أخرى رضخت للرغبة السوفيتية وانتهى بها المطاف الى بلدان مرتبكة.
خسارة الحرب جعلت الفنلنديين يتكبلون بتعويضات كبيرة إضافة الى التكاليف الباهضة التي يتطلبها اعمار المدن المدمرة بسبب الحرب، ناهيك عن استقبالهم فجاة لنصف مليون نسمة من الفنلنديين الذين كانوا يسكنون في الأجزاء الفنلندية التي استحوذت عليها روسيا وضمتها للخارطة الروسية. لكن الفنلنديين بشجاعتهم، اصرارهم على الاحتفاظ بخصويتهم إضافة الى الواقعية التي يتحلون بها جعلتهم يتجاوزن جميع تلك المحن ويرسخون هويتهم الناضجة بواقعية وثقة كبيرة بعيدا عن الاستعراض. فمبروك لهم ما تحقق من إنجازات.
جمال الخرسان