الفنلنديون والروس يحيون الذكرى الخامسة والسبعين لحرب الشتاء

في ظروف ليست مثالية تسود العلاقات بين روسيا وبين جيرانها في شمال اوروبا تمر هذه الايام الذكرى الخامسة والسبعين على نشوب “حرب الشتاء”، التي اندلعت في نهاية تشرين الثاني عام 1939 بين الاتحاد السوفيتي وبين جمهورية فنلندا وانتهت في 13/3/1940، حيث استمرت 105 يوما، واتت في اطار الحرب العالمية الثانية وصراع الكبار على مناطق النفوذ.
اسباب الحرب وطموحات ستالين
بعد ان احكم جوزيف ستالين رئيس الاتحاد السوفيتي قبضته على الجبهة الداخلية وقام بتصفية جميع الخصوم والمنافسين، وجّه انظاره بشكل اكبر الى صراعاته العديدة على الصعيد الدولي، فله جبهة مفتوحة في اطار صراع القوى العظمى على النفوذ والسيطرة، وهذا يشمل جميع القوى المؤثرة في القرار الدولي آنذاك، وله صراع دولي من نوع آخر مع طموحات هتلر في منطقة شمال اوروبا والبلطيق، الاثنان عقدا معاهدات سرية من اجل تقاسم النفوذ، لكن تلك المعاهدات لم تثمر مع ما بينهما من سباق محموم، ذلك ما دفع ستالين للتفكير بضرورة الاسراع مبكرا في حسم ملف الدوقيات التابعة لروسيا القيصرية والتي تم التخلي عنها لسبب او لآخر، لقد بسط ستالين نفوذه على جمهوريات البلطيق والعديد من مناطق اوروبا الشرقية، كما حاول هتلر الاستحواذ على بولندا، في خضم ذلك الصراع تحرك السوفيت على الجارة العنيدة فنلندا، ودخلوا معها في مفاوضات شكلية، طرح ستالين على الفنلنديين تبادل الاراضي، بحيث تتخلى فنلندا عن بعض جزرها او مدنها الساحلية المطلة على البلطيق في مقابل ان يتنازل الاتحاد السوفيتي عن بعض المساحات غير المؤثرة في الحدود الشرقية لروسيا، لكن الفنلنديين رفضوا، مما شجع ستالين على شن ما سمّي حينها بـ”حرب الشتاء”. وكانت شرارة الحرب هي حادثة مفتعلة قتل خلالها اربعة جنود بعد تعرض نقطة حدود سوفيتية لهجوم، ادعى الاتحاد السوفيتي ان فنلندا تقف ورائه، فيما يعتقد المتابعون انه من تدبير الروس من اجل شن الحرب.
المفاجئة الفنلندية
كانت القيادة العسكرية السوفيتية تعتقد ان احتلال فنلندا مجرد نزهة، المعركة لن تستمر سوى ايام قلائل، وتنهار الدفاعات الفنلندية التي لم تكن بالمستوى المطلوب، كانت تجهيزات الجيش الفنلندي متواضعة جدا، بل مضحكة بالمقارنة لهيبة الجيش الاحمر، وهذا ما يعرفه السوفيت جيدا، لكن التجهيزات المتواضعة لم تكن مبررا كافيا لعدم الاستبسال من قبل الجيش الفنلندي، الذي فاجأ الجيش السوفيتي في صلابته، والمفاجئات غير السارة التي يعدها بين الحين والاخر.
جحافل عسكرية قوامها مئات الالاف من الجيش السوفيتي الاحمر قررت عبور الحدود الفنلندية من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب على مساحة تقدر بحوالي 1200 كيلو مترا وبتضاريس مختلفة، في المقابل فان الفنلنديين اقاموا داخل الاراضي الفنلندية خطا دفاعيا حصينا “خط مانرهايم”، مع اتخاذ تكتيكات عسكرية تتناسب وظروف تلك المنطقة جغرافيا ومناخيا. ما سهل المهمة على الفنلنديين هو ان المعركة كانت داخل الاراضي الفنلندية على مقربة من الحدود مع الاتحاد السوفيتي، هذا ما اعطى افضلية للفنلنديين، وسمح لهم بتنفيذ العديد من المفاجئات ضد الجيش السوفيتي، حيث استخدموا عدة اساليب لإيقاف الدروع، جذوع الاشجار كانت احدى الاسلحة المهمة في عرقلة او تخريب جنازير الدبابات، لباس القوات الفنلندية كان باللون الابيض الذي يسهل كثيرا عملية التمويه، الظروف الجوية القارصة والتي تصل الى حوالي 40 درجة تحت الصفر كانت عامل قوة للجندي الفنلندي وعامل ضعف للجيش السوفيتي وغير ذلك من التفاصيل الميدانية المثيرة للانتباه.
الزجاجات الحارقة “المولوتوف”
الفنلنديون يعرفون تماما تفوّق الاتحاد السوفيتي عليهم عسكريا بالعدة والعدد، ولذلك كان عليهم استخدام كل ما بوسعهم من اجل عرقلة تقدم الجيش الاحمر على الحدود الطويلة الممتدة من اقصى شمال فنلندا الى اقصى جنوبها، من الاسلحة التي يسهل توفيرها وحملها هي الزجاجات الحارقة التي كانت فاعلة جدا ضد الدروع، ومن اجل تهيئة اعداد هائلة من تلك الزجاجات قدّمت وزارة الدفاع الفنلندية قبيل بداية الحرب طلبا الى شركة “آلكو” وهي شركة حكومية للمشروبات الكحولية، من اجل تهيئة اعداد كافية من الزجاجات الفارغة لتتم تعبئتها في معسكرات الجيش، استغرب المسؤولون في الشركة من تكرار الطلبات وسألوا عن الاسباب، فاخبروا بالأمر، ولأن المصانع الكحولية لم تكن تنشط في تلك الفترة، لذلك اقترحت الشركة المساهمة في تعبئة تلك الزجاجات بطريقة مثالية وسريعة، وقامت وزارة الدفاع الفنلندية بتزويد الشركة بخلطة مطوّرة تزيد فاعلية القوة التفجيرية لتلك الزجاجات الحارقة، ومنذ ذلك التاريخ اصبحت تلك الزجاجات الحارقة تسمّى بالمولوتوف، ان ذلك السلاح لم يسمّ بـ”المولوتوف” الا بعد تلك الحرب، فالاسم يشير “تهكّما” الى وزير خارجية الاتحاد السوفيتي آنذاك “فياتشيسلاف ميخائيلوفيتش مولوتوف”، ومنذ تلك الحرب الشهيرة اصبح المولوتوف هو الاسم الرسمي لسلاح الزجاجات الحارقة، التي تطل بنفسها في معظم وسائل الاعلام ما ان تحصل هنا او هناك ثورة او اعمال شغب.
“الموت الابيض” علامة فارقة في الحرب
من العلامات الفارقة في تلك الحرب لصالح الفنلنديين هي القناص الفنلندي الفذ سیمو هاوها “Simo Häyhä”، اذ يعتبر هاوها اشهر القناصين في التاريخ، حيث استطاع ان يرفع الروح المعنوية بين صفوف الجيش الفنلندي وعلى العكس بث روح الانهزام والخوف عند جنود الطرف الاخر، المؤكد انه اسقط ببندقيته الخاصة “M28″ ما لا يقل عن 500 ضحية، وهناك من يرفع الرقم الى حوالي 700 جندي، ولذلك لقبه الجيش الاحمر بـ”الموت الابيض”.
كان يتحمل ذلك القناص المحترف قساوة الطقس التي تصل في تلك المناطق الى 40 درجة تحت الصفر، خصوصا وان فصل الشتاء في تلك الفترة كان من اقسى الشتاءات التي مرت، كان يتخفى بين الصقيع ويتحرك بلباسه الابيض الذي يساعده كثيرا على التمويه والتخفي بكساء الطبيعة الشتوية لدولة قطبية.
من خصوصيات القناص هاوها انه لا يفضل استخدام منظار القناص، بل يعتمد على قوة عينيه، ما سهل عليه عملية التخفي لان ضوء الشمس المتوهج على الصقيع المتلألئ ربما ينعكس في المنظار مما يؤدي الى كشف موقعه بسهولة.
ذلك الشبح الابيض بقي يقاتل في صفوف الجيش الفنلندي في تلك الحب اكثر من ثلاثة اشهر، وفي السادس من آذار عام 1940 اصيب في احدى المواجهات في وجهه اصابة قاتلة افقدته وعيه ولم يستعد وعيه الا بعد نهاية الحرب، بقي هاوها شاهدا على تلك الحرب حتى الاول من نيسان عام 2002 حيث فارق الحياة.
الحروب مأساة في ذاكرة الشعوب
وضعت الحرب اوزارها في الثالث عشر من آذار عام 1940 بالتوقيع على “اتفاقية موسكو” التي حفظت لفنلندا استقلالها، هويتها كدولة غربية وضمنت نفاذها من الهيمنة السوفيتية، لكن المقابل كان ثمنا باهضا، حيث اضطرت فنلندا الى التنازل عن حوالي 11% من اراضيها الشرقية للاتحاد السوفيتي. خسائر السوفيت لم تكن قليلة، الجيش الاحمر فقد مئات الآلاف من جنوده قتلى، تركهم في الاراضي الفنلندية حتى بعد توقيع المعاهدة حيث اعترف فقط بحوالي 350 قتيلا واخذ جثثا بما يعادل ذلك الرقم، اما بقية الجثث فقد قام بدفنها الفنلنديين، كما اسر الفنلنديون حوالي 1500 جندي ومثل ذلك هزيمة معنوية كبيرة لهيبة الجيش السوفيتي.
بشيء من الظروف المشابهة لتلك التي ادت الى نشوب حرب الشتاء الشهيرة يستذكر الفنلنديون والروس معا ذكريات تلك الحرب بعد مرور 75 عاما على نشوبها، قلقة جدا الجارة الغربية لروسيا على امنها من روسيا الجديدة، فالطموح الذي يحرك فلاديمير بوتين في استعادة بلاده لهيبتها كان مشابها للدوافع التي تحرك ستالين، يتذكر الفنلنديون والروس ارهاصات تلك الحرب وعينهم على تجنب الوقوع بأخطاء الماضي. لقد اتت حرب الشتاء في سياق الصراع العالمي بين الشرق والغرب على كل شير في تلك المنطقة، الراغبون بعودة ذلك الصراع من جديد كما هو ملاحظ الان لن يفوتوا استثمار الازمات في حدود تمتد على مسافة تقارب 1200 كيلو مترا بين روسيا وجمهورية فنلندا. ومع عودة القلق من روسيا يعود بقوة ايضا الجدل حول جدوى انضمام فنلندا الى حلف شمال الاطلسي من عدمه، ان الخطر الروسي وان كان سببا مباشرا في دفع الفنلنديين الى الانضمام الى حلف الناتو فان ذلك الخطر يمثل سببا آخر الى التخلي عن تلك الخطوة التي تمثل استفزازا صارخا للدب الروسي.
جمال الخرسان