الرحلة الاسكندنافية الى المنطقة العربية
لأسباب علمية، سياسية، دينية او حتى شخصية كالترحال وتدوين التجارب الشخصية وخصوصا ذات الطابع المغامراتي يشد الرحال الى منطقتنا العربية والاسلامية بين الحين والاخر العديد من الرحالة والمستشرقين الاوروبيين. وفي سياق تلك الاهداف ايضا جاءت الرحلة الاسكندنافية التي عزمت على تلك المغامرة في كانون الثاني عام 1761 بإيعاز ودعم من ملك الدنمارك آنذاك فريدريك الخامس.
بدأت فكرة الرحلة من مقترح تقدم به المستشرق الالماني يوهان دافيد ميخائيلس “Johann David Michaelis” الى وزير الخارجية الدنماركي جون هارتفيغ بيرنستورف “Johann Hartwig Ernst von Bernstorff” بان يذهب رجل واحد الى بلاد اليمن لأنها شبه معزولة ولا يتوقع ان تتغير كثيرا ما كانت عليه سابقا، فما كان من الوزير الا ان قدم المقترح توصية الى ملك الدنمارك الذي عرف عنه اهتمامه بالعلم والفن، الملفت ان موافقة الملك جاءت في مرسوم ملكي يحدد مهام البعثة التي تشكلت بعد المداولة من فريق عمل متكامل، الزم الملك المشاركين فيها بتوصيات صارمة تقضي بضرورة احترام العرب والثقافة العربية. اختير اعضاء البعثة الستة بعناية فائقة وهم: عالم الفيزياء والرياضيات والخرائطي الالماني كارستن نايبور، عالم الاحياء الفنلندي بيتر فورسكال، الطبيب الدنماركي كريستيان كارل كريمر، الرسام الالماني غيورغ فيلهلم بورينفانيد، عالم اللغة والمختص بمعرفة الكتابات القديمة الدنماركي كريستيان فون هافن. اضافة الى جندي مرافق للبعثة. انطلقت الرحلة بداية عبر السفينة الدنماركية الحربية “غرينلاند” اوصلتهم الى مدينة مارسيليا الفرنسية، ثم منها الى مصر عبر القسطنطينية “اسطنبول”، ومن مصر وصلوا الجزيرة العربية في سفينة تقل الحجاج عبر البحر الاحمر، ومن اعلى تلك السفينة رسم نايبور خريطة البحر الاحمر، ثم ذهبوا لليمن، العراق وايران وحتى الهند. اعضاء البعثة استثمروا تلك الرحلة الطويلة لصالحهم ولم يتركوا شيئا الا واستوقفوه باختصاصاتهم المختلفة، لقد رسموا مئات الخرائط منها الخريطة الاولى لليمن، وجمعوا اعداد كبيرة من المخطوطات واسماء النباتات والحيوانات، اما بالنسبة لنيبور فقد تجول في العراق وله وقفة خاصة مع مدينتي النجف وكربلاء. اعضاء البعثة ورغم صلابتهم امام قسوة المناخ، الظروف الصعبة وحتى مطاردات بعض السكان وقطاع الطرق فان اكثر ما جعلهم يدفعون الثمن غاليا هو مرض “الملاريا” الذي قضى عليهم واحدا تلو الاخر، توفوا جميعا ولم يعد منهم سوى نايبور حاملا ما وثّقه هو وما وثّقه زملاؤه المغامرون. ورغم ان الرحلة لم تستغرق اكثر من سبع سنوات الا انها عاصرت ملكين دنماركيين، فالملك فريدريك الخامس امر بها لكنه لم يشهد عودتها بعد ان غيبه الموت، وحينما عادت البعثة الاستكشافية من العالم العربي الى الدنمارك نهاية العام 1767 كان على راس المملكة الملك الشاب كريستيان السابع. بعد العودة وجد نايبور نفسه امام مسؤولية الاهتمام بمنتجه ومنتج زملائه الاخرين، وفاءا لهم وخدمة للأمانة العلمية كتب عن الرحلة ثلاثة كتب، فيما تركت تفاصيل اخرى أثمرتها الرحلة مواد خام بين ايدي الباحثين في المجال الحيوان والنبات، الخرائط، العادات والثقافة الاجتماعية اضافة الى رسومات لمختلف المشاهدات لازالت جميعا حتى هذه اللحظة بمثابة سلة معرفية.
وبالمجمل العام يميل المتابعون لنتاج الرحلات الى الاستنتاجات وحتى الانطباعات التي يوثقها القادمون من شمال اوروبا فهم اكثر من غيرهم ميلا للحياد والموضوعية كما لا تطغى الدوافع السياسية والدينية على ما وثقوا في مدوناتهم، ولهذا يحظى ما كتبه الفنلندي جورج اوغست والين عن المنطقة العربية بأهمية كبيرة وهكذا آخرون، واذما كانت الرحلات الاسكندنافية الفردية تحظى بتلك الاهمية فما بالك ان كانت رحلة تعمل بروح الفريق الواحد المتعدد الاختصاصات! ناهيك عن كونها البعثة الاكاديمية الاولى التي قدمت من اوروبا الى العالم العربي. واحتفالا بمرور 250 عاما على انطلاق الرحلة اطلقت عام 2011 بعض المؤسسات الدنماركية موقعا الكترونيا بلغات مختلفة احتفاءا بذلك الحدث كما اصدرت طوابع بريدية واحيت العديد من النشاطات الثقافية. ان الرحلة الاسكندنافية والاحتفاء بها يمثل محطة استثنائية في اطار الحوار الثقافي بين العرب والاسكندنافيين.
جمال الخرسان