ثقافة وفن

الكاليفالا ملحمة الشعب الفنلندي ونواة هويته القومية

 منذ العام 1920 اصبح الثامن والعشرون من شباط يوما وطنيا يحتفى فيه سنويا بالثقافة الفنلندية على شرف “ملحمة الكاليفالا” تقديرا لأهميتها وتأثيرها على مجمل الثقافة الفنلندية. ترجمت الملحمة الى خمسين لغة من بينها اللغة العربية في ثلاث ترجمات على الاقل، الاولى للبناني سحبان احمد مروة، والثانية للمصري محمود مهدي عبد الله، اما الترجمة الثالثة فكانت للسورية روز مخلوف.

جاءت الكاليفالا في خضم ارهاصات تشكّل الهوية الفنلندية التي كانت مشتتة بين غرب سويدي وشرق روسي، كان الشعب الفنلندي حينها خرج للتو من ثنايا الاحتلال السويدي الذي استمر لأكثر من ستمائة عام ابتداءا من القرن الحادي عشر حتى عام 1809 حيث بدأت بعد ذلك التاريخ مرحلة الاحتلال الروسي الذي بقي حتى عام 1917. فكانت لغة المخاطبات الرسمية هي الروسية فيما كانت السويدية لغة العلوم والنخبة وفي هذه المعادلة الصعبة كانت ولادة الملحمة التي حفظت آلاف المفردات اللغوية الفنلندية من الضياع، بحيث كانت الكاليفالا اشبه بمعجم لغوي في تلك الفترة، كما انها الاثر الاكثر تأثيرا في الهوية الثقافية والسياسية للامة الفنلندية، معظم التماثيل المنتشرة في فنلندا مستلهمة من مضامين تلك الملحمة، الكثير من الروايات الفنلندية الشهيرة قديما وحديثا هي الاخرى مستقاة منها، وكذلك العديد من الالوان الادبية الاخرى، اشهر المقطوعات الموسيقية للموسيقار الفنلندي المعروف جان سيبيليوس مستوحاة من ملحمة الكاليفالا، وعشرات المسميات الوطنية والعامة تنحدر من الاسماء والمفردات الواردة في الملحمة كما هو الحال مثلا مع مسمّى سامبو Sampo””، مستوحى من الآلة الاسطورية التي تجلب المال والذهب وفقا لما جاء في الكاليفالا، كذلك الحال بالنسبة الى مسمّى لمّنكايننLemmenkäinen” ” وهو اسم لاحد ابطال الملحمة.

اجواء الملحمة تدور حول نزاع بين مملكتين على امتلاك آلة اسطورية ساحرة تحقق كل الاماني وتجلب المال من حيث لا يعلم احد انها سامبو الطاحونة السحرية التي جلبها او صنعها بطل الاسطورة الحدّاد “ايلمارينن” من اجل ان يقدمها مهرا لسيدة الشمال “البوهيولا” بغية ان تهبه ابنتها التي يحبها كثيرا.

يعود الفضل في جمع وتهذيب الملحمة للطبيب والشاعر الفنلندي إلياس لونّروت “Elias Lönnrot”1802 ـ 1884″، هذا الاخير ولأنه كان طبيبا وحيدا لقرابة الاربعة الاف شخص لذلك كان لزاما عليه البقاء مترحلا بين القرى والارياف والمدن الفنلندية لتأدية ما عليه من مهمة انسانية تجاه المحتاجين للرعاية الطبية من ابناء بلده، كان يجول الغابات عبر وسائط نقل مختلفة واحيانا سيرا على الاقدام لمسافات طويلة في ليالي الشتاء القطبية الطويلة جدا بين تلال مخيفة من الثلج والصقيع.

وبينما هو كذلك يتنقّل من قرية الى اخرى ومن بيت الى آخر اخذ يسترق السمع لهمسات الامهات والاباء وهم يسلّون ابنائهم، في سكون الليل كان لونّروت يصغي بحواسه الخمسة لمقطوعة شعرية من هذه الجدة ولخرافة واسطورة من ذلك الاب الكبير.. ادرك وهو الشاعر المرهف والمتخصص ايضا في علم الفولكور انه امام مهمة ادبية انسانية من نوع آخر حتّمت عليه تجميع وتدوين وتقديم ذلك التراث الفنلندي المتوارث ابا عن جد منذ ايام فنلندا الوثنية حينما كان الفنلنديون يعبدون كبير الآلهة “اوكّو”. أدرك لونّروت ان المهمة الجديدة اكثر اهمية من الطب رغم حاجة الناس الانية اليه. وهكذا فجمع لونروت ما حصل عليه من اشعار شعبية وتراتيل وترانيم نتيجة ترحاله الذي استغرق اكثر من عشر سنوات واضاف له شيئا قليلا مستوحى مما سمع، قدم جميع ذلك بشكل فني متقن تحت عنوان ملحمة الكاليفالا عام 1835. وقد تضمنت قرابة الثلاثة وعشرين الف بيتا موزعة على خمسين انشودة وقصيدة شعبية، ليشكل ذلك الموروث نواة حقيقية فيما بعد من اجل تأسيس هوية ثقافية خاصة لهذا الشعب الصغير.

 

جمال الخرسان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى