متحف آندرسون للفن الحديث ضم لوحات من عصور مختلفة وشهد اشهر المعارض لتاريخ ما بين النهرين في شمال اوروبا
مؤسسه اقتصادي استثمر في الإعلام وكان يقتني اللوحات ببيت بناه في 1913
في معظم مدن اوروبا تنتشر عشرات المتاحف بموضوعات مختلفة، متاحف للتراث، متاحف للفن القديم، متاحف للفن الحديث، متاحف لمجموعات قومية، متاحف لمدن، حروب، متاحف للصناعات البحرية، وحتى لآلات الموسيقى، بعض تلك المتاحف تتبع الدولة واخرى تدار من قبل القطاع الخاص وهناك مؤسسات غير رسمية معنية بإدارتها. العاصمة الفنلندية هلسنكي ليست إستثناءا من ذلك، حيث تتوزع في زواياها سلسلة طويلة عريضة من المتاحف، من بينها متحف آموس آندرسون “Amos Andersonin” الذي يعد من اشهر المتاحف الفنية على صعيد القطاع الخاص.
المتحف وقصة بداياته تقود بالضرورة للحديث عن شخصية “Amos Andersonin” رجل الاعمال المثابر، الصحفي، ونائب البرلمان المحب للثقافة والفن والذي سخّر ثروته لخدمة تلك المجالات.
لعائلة فلاحية ولد اندرسون عام 1878 في مدينة كميو Kemiö” ” اقصى جنوب غرب فنلندا، درس الاقتصاد في مدينة “توركو” وسافر الى خارج البلاد لإكمال مشواره في ذلك المجال، عاد الى فنلندا بعد بضع سنوات واستقر في هلسنكي ومن العاصمة اخذ ينمو طموحه الاقتصادي، شيئا فشيئا نمت ثروته فاشترى عقارات وسط المدينة، استثمر في الاعلام واشترى بعض الصحف الناطقة باللغة السويدية في فنلندا، وترأس تحرير اشهرها لمدة 23 وعشرين عاما، المشهور عن اموس اندرسون انه رجل بشخصيتين، في الصباح رجل اعمال مثابر ناجح وجاد جدا، وفي المساء مثقف وصحفي قريب من الوسط الفني والثقافي، كان يقتني اللوحات المهمة ويحتفظ بها في بيته الذي بناه عام 1913 والذي يتكون من ستة طوابق. وبعد مدة من الزمن امتلأت صالات البيت بعشرات اللوحات الثمينة جدا، لتشكل نواة متحف اندرسون.
والى جنب العديد من المشاريع التي اسّسها اموس اندرسون فإنه اسّس عام 1940 جمعية خيرية معنية بدعم النشاطات الفنية والثقافية في فنلندا وخارجها، وقد اوصى ان ترث تلك الجمعية جميع ما يملك، وهذا ما حصل. بعد وفاته عام 1961 بأربع سنوات جمعت تلك اللوحات التي كان يقتنيها اندرسون وأسّس منها متحف اموس اندرسون عام 1965، الذي تكفلت بإدارته تلك الجمعية. من طوابق المتحف الستة اربعة مفتوحة امام الزوار، الطابق الخامس خصص لحياة اموس اندرسون الخاصة ومقتنياته الشخصية. اما بقية الطوابق فتقام فيها مختلف الفعاليات الفنية والثقافية على مدار العام، لكن أشهر ما اقيم فيه من فعاليات هو معرض “تاريخ بلاد ما بين النهرين” الذي استمر إبتداءا من 18 آب وحتى 13 تشرين الثاني عام 1977. اذ ان الدولة العراقية قررت في السبعينات من القرن الماضي اقامة سلسلة من المعارض التاريخية الاثارية في اماكن مختلفة من العالم، عام 1975 اقيم في اليابان المعرض الآثاري تحت عنوان “بلاد ما بين النهرين”، وقد ارسل المتحف الوطني العراقي قرابة المائتي وعشرين قطعة لذلك المعرض، وبعد ذلك بسنتين تنقّل ذات المعرض بين ست مدن اوروبية. ابتدأ من ستوكهولم عاصمة السويد للفترة 10/2-1/5/1977 واقيم على قاعتي “statens historiska museum، Medelhavsmuseet”، ثم انتقل المعرض الى العاصمة النرويجية اوسلو حيث اقيم على قاعة “nasjonalmuseet” للفترة من ايار وحتى نهاية تموز عام 1977. بعد النروج وصل المعرض الى هلسنكي واقيم في متحف اموس اندرسون، ثم بعد ذلك انتقل الى مدينة بروكسل عاصمة بلجيكا واقيم هناك لمدة شهرين من كانون الاول عام 1977 حتى كانون الثاني عام 1978. ثم انتقل الى العاصمة الدنماركية كوبنهاغن حيث اقيم هناك من شباط وحتى ايار عام 1978، ثم اختتم المعرض في مدينة هيلدسهايم في المانيا الغربية على قاعة “متحف رومر” للفترة من حزيران وحتى ايلول عام 1978.
في هلسنكي فان المعرض افتتح بحضور الرئيس الفنلندي اورهو ككوننUrho Kekkonen” ” ووزير الاعلام طارق عزيز الذي ترأس وفدا كبيرا ضم دبلوماسيين وعلماء اثار منهم على سبيل المثال: الآثاري الدكتور مؤيد سعيد دميرجي ووكيلة مدير المتحف آنذاك الآثارية مهاب البكري وغيرهم، زاروا فنلندا من اجل تنظيم ذلك الحدث الذي حظي بتغطية اعلامية استثنائية وشهد اقبالا جماهيريا منقطع النظير من فنلندا وخارجها، حيث قدم عشرات الالاف من بقية بلدان اسكندنافيا لمشاهدة ذلك الحدث غير المسبوق. توثيقا لذلك الحدث فاتحت المتحف بالاطلاع على ما يملكه من ارشيف حول ذلك المعرض الاستثنائي ففوجئت بأربع رزم كبيرة توثق كل ما دار آنذاك. الاحتفاظ بالأرشيف ميزة مهمة جدا لكل مؤسسة، لكن الاهم هو الطريقة التي تتم فيها الارشفة، لقد اذهلتني اهمية وحجم التفاصيل التي تم الاحتفاظ بها، وجدت كتبا، برقيات، وثائق بلغات مختلفة. وجدت صورا وقصاصات لوسائل اعلام فنلندية تحدثت عن المعرض، وجدت اوراق كتبت بخط اليد ووجدت كل شيء يتعلق بالمعرض، عرض الارشيف امامي وكأنه رزم قبل شهر وليس لحدث يعود للعام 1977.
على هامش ذلك المعرض الذي اقيم في متحف اندرسون اهدى الوفد العراقي قطعا اثرية ثمينة الى الرئيس الفنلندي، وهذا الاخير قام بإهدائها لاحقا الى المتحف الوطني الفنلندي، لكن الحكومة الفنلندية احتفظت بتلك الاثار بعيدا عن الاضواء ولم يتم عرضها للملأ، ورفضت مؤخرا طلبا من اجل ارجاعها بحجة تعرض الاثار في العراق الى الضياع والتلف.
مثير هذا المتحف ابتداءا من مؤسسه وليس انتهاءا بكثير من الاحداث المثيرة التي اقيمت فيه، التجوال في ذلك المتحف لا يعني لأمثالي استعراض تاريخا من الفن فحسب، بل ايضا تاريخا من القصص المثيرة حول ارث العراق الموزع على جميع البلدان.
جمال الخرسان