ارهاصات تشكل الهوية الفنلندية
الاقوام والقبائل والقرى المتناثرة في عموم الجغرافيا الفنلندية قبل القرن الثاني عشر للميلاد كانت تمثل عموم شعب فنلندا الذي لم يكن يحمل هوية واضحة المعالم آنذاك، لكن التجمعات السكانية تلك كانت تتخذ الثقافة النوردية الشمالية طريقة للاعتقاد وايدلوجيا للحياة، حتى جاء الاحتلال السويدي فغير الهوية الدينية لتلك التجمعات السكانية من الوثنية وعبادة الاساطير الى المسيحية. وأيضا تحولت الجغرافيا الفنلندية عموما الى مقاطعة تتبع المملكة السويدية التي كانت دولة مهيبة آنذاك، كانت عامة الناس ستحدثون في تعاملاتهم اليومية بالفنلندية لكن لغة الطبقة البرجوازية والنبلاء وكبار رجالات البلاد يتحدثون السويدية اللغة الرسمية. بقيت الحال على ما هي عليه لحوالي ستة قرون حتى العام 1809 حينما سيطرت روسيا على فنلندا وضمتها دوقية تتبع الإمبراطورية الروسية لكن بنفس الوقت منحتها صلاحيات كبيرة بالقياس لما كان الحال عليه فترة الاحتلال السويدي، لقد منحت فنلندا صلاحيات الحكم الذاتي على الأقل لبعض الفترات، تعزيزا لذلك افتتح القيصر الروسي الكسندر الأول عام 1812 مجلس بورفو في مدينة بورفو. للمجلس صلاحية اتخاذ العديد من القرارات.
بالتزامن مع المتغيرات السياسية والعسكرية التي جرت في فنلندا ومحيطها كانت تتشكل نخبة اكاديمية فنلندية تدعو الى نسج هوية فنلندية متمايزة عن السويد وروسيا رغم ان كبار الاكاديميين فيها من الناطقين بالسويدية، الحركة أتت بالتزامن مع رواج عصر الرومانسية وتعزيز الهويات القومية. وفي هذا الاطار يمكن الإشارة الى الحركة الفنومانية (Fennomania)، مما كانت تدعو له هذه الحركة تعزيز مكانة اللغة الفنلندية واستخدامها في المخاطبات الرسمية، في المقابل هناك حركة سويدية في فنلندا كانت ترفض ذلك وتدعو لتعزيز اللغة السويدية كلغة رسمية وهذه الحركة كانت تسمى سفيكومانية (Svekomania)، ان الفونامية استطاعت بفضل جهود الشخصيات البارزة تعزيز مكانة الثقافة واللغة الفنلنديتين ورفع سقف التعامل بتلك اللغة من طبقة الفلاحين الى مختلف الشرائح الاجتماعية. من ابرز رموز تلك الحركة الكاتب والسياسي أدولف إيفار أرفيدسون، ثم الثلاثي الشهير الذي كان بدا الدراسة الاكاديمية في توركو منذ العام 1822 وهم كل من: الكاتب سنيلمان، شاعر النشيد الوطني الفنلندي روني بيرغ وكذلك الياس لونرت مؤلف ملحمة كاليفالا.
حينما انتقلت جامعة توركو الى هلسنكي عام 1828 انتقل نشاط تلك الحركة أيضا الى هلسنكي، 1830 أسس في جامعة هلسنكي جمعية يوم السبت “Lauantaiseuran” وهي جمعية تضم طلابا واكاديميين كانوا يجتمعون كل يوم سبت لتبادل الأفكار الثقافية والأدبية وتنضيجها. من خضّم هذه الحوارات ولدت جمعية الادب الفنلندي عام 1831. اهداف الجمعية نشر اللغة، الثقافة والادب الفنلندي، الجمعية قامت بتمويل رحلات الياس لونرت الى شرق فنلندا بهدف جمع ملحمة الكاليفالا، هذه الأخيرة احدى اهم ركائز الادب الفنلندي.
في العقد الرابع للقرن التاسع عشر قامت الجمعية الأدبية بإصدار نشرية أدبية باللغة الفنلندية واخذت تنشر مساهمات أدبية فيها.
احد رموز تلك الجمعية سنيلمان استثمر رحابة صدر القيصر الروسي “الكسندر الثاني” الذي شهدت فترته منح الدوقيات مزيدا من الصلاحيات واستحصل منه في آب عام 1863 على موافقة خاصة بان تكون اللغة الفنلندية هي اللغة الرسمية للبلاد في مختلف المجالات خلال فترة ليست طويلة. سنيلمان ساهم أيضا بمساعدة اخرين بسك العملة الفنلندية وهي الماركا عام 1860، وكذلك ذلك كان يصب في تشكيل ملامح الهوية الفنلندية.
من الخطوات التي ساهمت بتشكيل الهوية الفنلندية تأسيس المدارس الشعبية ” Kansakoulu”، وهذا المشروع كان احد اهداف الحركة الفنومانية أيضا، عام 1856 صدر مرسوم من قبل القيصر الكسندر الثاني بالموافقة على تشكيل تلك المدارس ولكن المشروع تحقق عمليا عام 1866. كانت المدارس تهتم كثيرا بتدريس اللغة الفنلندية مما ساهم بتعزيز مكانتها في المجتمع والدولة الفنلندية. كما تطلب ذلك المشروع مراحل تاهيل للكوادر التدريسية، ومن بينها المؤتمر الأول الذي عقد في مدينة يوفاسكولا عام 1863.
في نهاية القرن الثامن عشر اتسعت دائرة الاكاديميين في فنلندا القادرين على اثراء الهوية الفنلندية بالاعمال الأدبية والفنية، فانجزت اعمال شعرية، ونثرية كثيرة. كما نشطت الحركة الفنية التي كان العصر الذهبي لها الفترة 1889ـ1910. ان الهوية الفنلندية اتضحت وترسخت بشكل منهجي طوال القرن التاسع عشر، وحينما دخلت فنلندا القرن العشرين كانت هوية البلد واضحة المعالم، ولم يبق سوى الشكل السياسي للدولة الذي حصل حوله الخلاف في مرحلة الحرب الاهلية لكن تمت معالجة ذلك بشكل علمي.
جمال الخرسان