فنلندا وقياصرة روسيا الخمسة
بعد احتلال دام حوالي ستمائة عام من قبل المملكة السويدية للجارة الشرقية فنلندا جاء الدور في صراع الكبار على هذا البلد الصغير الى روسيا القيصرية التي تغلبت على المملكة السويدية عام 1809 في “حرب فنلندا” وسيطرت على معظم انحاء البلاد.
بين اول زيارة لقيصر روسي الى فنلندا والتي حدثت في آذار عام 1809 واخر زيارات القياصرة الروس التي قام بها نيقولا الثاني في آذار عام 1915 سيل من الاحداث والمتغيرات التي تحكي قصة جماعة بشرية تحاول تشكيل هويتها الخاصة والدفاع عنها في ظل صراع القياصرة والمماليك.
القيصر الكسندر الاول “Aleksanteri I”
ما ان مرت سنتان على توقيع الكسندر الاول عام 1807 “معاهدة تيليست” التي ارست تقاسم النفوذ بين كبار اوروبا واطلقت يد الروس في السيطرة على فنلندا، وفي اطار ما سمي آنذاك بالحرب الفنلندية بين روسيا والسويد التي استمرت 1808-1809 سيطرت روسيا القيصرية على فنلندا وضمّتها دوقية تتبع حكم القياصرة الروس.
في زيارته الاولى الى فنلندا يوم 27 آذار 1809 قام الكسندر الاول بتاسيس المجلس التشريعي لدوقية فنلندا من مدينة بورفو الفنلندية، بصلاحيات مختلفة من حين لآخر استمر ذلك المجلس يدير فنلندا حتى العام 1906.
عام 1812 قرر الكسندر الاول نقل العاصمة من مدينة توركو الواقعة اقصى جنوب غرب فنلندا والتي كانت عاصمة فنلندا فترة الاحتلال السويدي الى مدينة هلسنكي الواقعة جنوب شرق فنلندا، جاءت تلك الخطوة بناءا على اعتبارات عسكرية، اضافة الى رغبة روسيا في ترك لمسة روسية مختلفة في فنلندا.
هلسنكي لم تكن آنذاك مدينة كبيرة، كما لم تكن اهم مدن فنلندا، وهذا ما دفع الكسندر الى العمل على بناء جزء مهم من معالم المدينة، حيث شيد اهم ساحات المدينة، ساحة مجلس الشيوخ”Senaatintori” التي ضمت مباني ذات طراز رفيع من بينها الكاتدرائية البيضاء الشهيرة.
في حادث لفت الانظار الى فنلندا التقى الكسندر الاول عام 1812 في مدينة توركو الفنلندية مع ملك السويد كارل الثالث عشر “Kaarle XIII”، عام 2012 شيد تمثال على نهر توركو اعتزازا بمرور قرنين على ذلك اللقاء التاريخي.
عاشت فنلندا تحت حكم السكندر الاول 16 عاما 1809-1825، ولم يتسم حكمه في فنلندا بالقسوة بل لاقى تعاطفا من قبل الناس.
نيكولاي الاول “Nikolai I”
خلافا لسلفه كان نيكولاي الاول متغطرسا، اصدر سلسلة من القرارات ادت الى تقليص صلاحيات الدوقيات التابعة لسيادة روسيا القيصرية. عاشت فنلندا مركزية شديدة حرمتها من الصلاحيات التي منحها الكسندر الاول.
نيكولاي الذي ادخل روسيا القيصرية في حرب القرم (1853-1856) وهي حرب ضروس عرضّت جيوشه لهزائم متتالية، اثناء الحرب.
في ربيع العام 1953 واستعدادا لحرب القرم ارسل الفرنسيون والانجليز اسطولا بحريا كبيرا الى بحر البلطيق ووصل على مقربة من الشواطيء الفنلندية. وكان برفقة تلك الاساطيل صحفيون وفنانون كتبوا ووثقوا الكثير عن فنلندا، كانت حرب القرم محطة مهمة في انعكاس فنلندا بوسائل الاعلام الفاعلة آنذاك.
لكن حقبة نيكولاي الاول لم تخلو من بعض الجوانب الايجابية، في تلك الفترة سمح للبنك الفنلندي باصدار عملة ورقية. كما تفعّلت آنذاك قناة “سايما” المائية التي جددت بشكل تقني افضل واصبحت طريقا مهما للتجارة بين المدن الفنلندية وسانت بطرس بورغ. القناة بالاضافة لاهدافها التجارية كانت معلما جاذبا للسياح ايضا.
مما يتعلق بحقبة نيكولاي الاول لازال حتى هذه اللحظة يقف شامخا نصب في ميناء هلسنكي، شيد بمناسبة اول زيارة لزوجة القيصر الروسي الى هلسنكي عام 1835. النصب عبارة عن عمود من حجر الغرانيت يعلوه نسر ذهبي له راسان. ايضا في فترته تم تغيير اسم مدينة فاسا الواقعة في غرب فنلندا والتي اسسها الملك السويدي كارل التاسع عام 1606 الى مدينة نيكولاي منذ العام 1855. ذلك الاسم بقي حتى العام 1917 حينما استقلت فنلندا حينها استعادت المدينة اسمها القديم.
نيكولاي وبسبب الهزائم التي تعرض لها جيشه في حرب القرم اصيب بالحمى وتوفي عام 1855. عاشت فنلندا تحت حكمه حوالي 30 عاما من الهيمنة السياسية ونهج مختلف عن القياصرة السابقين.
القيصر ألكسندر الثاني “Aleksanteri II”
القيصر السكندر الثاني المتعلم جيدا ورث من ابيه معركة القرم الطاحنة، بلدا مفككا، وشعبا لا يثق بقيادته بعد سلسلة من الهزائم. حرص الكسندر الثاني على ترميم الاوضاع في روسيا والدوقيات التي تتبعها، بعد عام تقريبا على توليه الحكم انهى معركة القرم باتفاقية باريس عام 1856.
زار فنلندا في آذار عام 1856، ذهب الى مدينة تامبيرا، وقرر اعادة العمل بالصلاحيات التجارية التي كانت ممنوحة للمدينة والتي اوقف العمل بها ابوه. ساهم ذلك في تنشيط وبناء مصانع مهمة في المدينة من بينها مصانع النسيج التي كانت الاولى من نوعها وحجمها في بلدان الشمال. افتتح السكندر الثاني عام 1856 اول خط سكك حديد في فنلندا وكان يربط بين فنلندا وهامينلينا.
تعليم اللغة في فنلندا انتعش بعض الشيء في تلك الفترة، حيث اسس في تشرين الاول عام 1858 اول مدرسة لتعليم اللغة الفنلندية، واعقبها بعد ذلك مجموعة من المؤسسات التعليمية. ساهم بانتعاش الاقتصاد في روسيا وفنلندا، اصدر قرارا بتحرير العبيد عام 1861.
عام 1863 زارالقيصر السكندر الثاني فنلندا وافتتح بنفسه في ايلول مجلس بورفو الذي كان يحكم فنلندا، منح الفنلنديين مزيدا من الصلاحيات الذاتية، اعتزازا بما انجز في تلك الزيارة شيد عام 1868 تمثالا Parolan leijona .
وتتويجا لمزيد من الصلاحيات اللغوية وافق الكسندر الثاني في آب عام 1863 على طلب تقدم به الشخصية الفنلندية المرموقة في السياسة والادب يوهان فيلهلم سنلمان بان تكون الفنلندية لغة رسمية في البلاد في مختلف المجالات خلال فترة ليست طويلة.
عام 1868 امر القيصر الروسي ببناء خط سكك حديد بين هلسنكي ومدينة سانت بطرس بورغ من اجل تنشيط الحركة التجارية بين دوقية فنلندا وروسيا.
بعد ان حكم لحوالي 26 عاما 1855-1881 فإن القيصر الكسندر الثاني اغتيل في عام 1881 من قبل بعض المتعصبين الروس. كان حاكما متعاطفا مع الفنلنديين ومحبوبا بالنسبة لهم خصوصا اذا ما قورن مع فترة حكم والده نيكولاي. فترة حكمه كانت ذهبية بالنسبة للفلننديين اذا ما قورنت مع غيرها من فترات الاحتلال الروسي لفنلندا. من يزور هلسنكي سيشاهد تمثالا عظيما شيد للقيصر السكندر الثاني وسط اكثر مناطق هلسنكي حيوية، ويعد من ابرز معالم هلسنكي السياحية والعمرانية.
القيصر الكسندر الثالث “Aleksanteri III”
السكندر الثالث اراد ان ينهج نهج ابيه بالتخفيف من معاناة الشعب الروسي والفنلندي، منح فنلندا مزيدا من الصلاحيات الذاتية، ولهذا تشكلت له علاقة طيبة مع الفنلنديين من مسؤولين في الدوقية او حتى مع عامة الناس، كان يزور فنلندا بين الحين والاخر ويقضي اجازات جميلة في صيف فنلندا.
زوجة القيصر الكسندر الثالث قيصرينا داغمار “Keisarinna Dagmar” والتي تحمل اسم ” Maria Fjodorovna” ايضا… هي ابنة ملك الدنمارك، يحبها الشعب الفنلندي واعتزازا بها سمي باسمها شارع في العاصمة هلسنكي “Dagmaninkatu” وهناك مستشفى ايضا في هلسنكي تحمل اسمها “Marian sairaala”. القيصر السكندر الثالث حكم فنلندا حوالي 13 عاما للفترة 1881-1894. اتسم حكمه بالاعتدال ولذلك يحبه الفنلنديون.
القيصر نيكولاي الثاني “Nikolai II”
طيلة ثلاثة وعشرين عاما حكم فيها روسيا القيصرية ومن ضمنها دوقية فنلندا واجه القيصر نيكولاي الثاني آخر القياصرة الروس تحولات سياسية واجتماعية مثيرة جدا، خسارته للحرب امام اليابان والغضب الشعبي الذي تولد اثر ذلك، ارهاصات الثورة البلشفية وبداياتها. تشكل وحدات ومجموعات ثورية تهدف لتغيير الحكم في روسيا شكلا ومضمونا، ناهيك عن سياسات الترويس التي مارسها في فنلندا ابتداءا من العام 1899.
عرف نيكولاي بنزعته القومية، وبقسوته تجاه المستعمرات او الدوقيات التابعة لروسيا القيصرية، وفيما يتعلق بفنلندا فقد وجّه بممارسة سياسة الترويس التي تهدف لطمس الثقافة واللغة الفنلندية وصهرها بالهوية الروسية، كما قرر في شباط عام 1899 الغاء القومية الفنلندية. قام ايضا بالغاء العديد من القرارات التي تعزز الحكم الذاتي في فنلندا. حارب الممارسات الفنلندية العامة ذات الطابع الوطني، كذلك دمج الجيش الفنلندي بالجيش الروسي، امر بتوقيف اصدار الصحف، وانتهى بمنع التداول الرسمي باللغة الفنلندية، لقسوتها بعضهم اعتقد ان تلك المرحلة هي نهاية فنلندا والهوية الفنلندية التي لازالت فتيّة، دب اليأس في صفوف الفنلنديين ودفع بعضهم لتشكيل مجموعات قتالية تدربت في المانيا تقاتل المحتل الروسي.
ذلك الخطر الذي يهدد وجود الهوية الفنلندية التي اخذت تتشكل حديثا وتجد لنفسها مكانة خاصة بها بعيدا عن هويات الجارات الكبرى التي تريد ابتلاعها، دفع الرسام الفنلندي “إدفارد إيستو” لمقاومة ذلك من خلال ريشته التي رسمت عام 1899 لوحة تسمى “Hyökkäys” او الهجوم. موضوع اللوحة يجسد فتاة ترتدي ثيابا بلون العلم الفنلندي وترمز الى فنلندا، يهاجمها في يوم عاصف واجواء مخيفة صقر برأسين رأس يريد الانقضاض عليها ورأس يريد الانقضاض على الكتاب الذي تمسكه بيديها، الفتاة التي تقف قرب الشاطيء تتصدى لذلك الكائن المهاجم بذلك الكتاب الذي هو بمثابة دستور فنلندا. اللوحة المذكورة لاقت استحسانا كبيرا من عامة الناس وانتشرت بشكل ملفت للانظار باعتبارها رمزا وطنيا يلامس الهم الاكبر للشعب الفنلندي الذي يناضل بشتى السبل من اجل الحفاظ على هويته الفتيّة، مما جعل السلطات الروسية تقرر ابعاد كل من توجد في حوزته نسخة من تلك اللوحة الى منطقة سيبيريا الشهيرة المعروفة ببردها وصقيعها طيلة ايام السنة.
في فترة نيكولاي الثاني ايضا تأسست ونشطت جمعية “Kagaali”، التي كانت تنشط سرا لمناهضة الاضطهاد الروسي في فنلندا ضمّت العديد من الشخصيات البارزة من نخبة المجتمع الفنلندي آنذاك، بعضهم نفي الى سيبيريا بسبب نشاطاته ضد الترويس.
امتعاض الفنلنديين من سياسة نيكولاي تجاههم وتجاه شعبه خصوصا بعد ان حصول احداث دموية ضد المتظاهرين، دفعهم لاحتضان نشاطات ابرز رموز الثورة البلشفية “فلاديمير لينين”.
كان لينين يشارك الشعب الفنلندي في معارضته لحكم القياصرة الروس لذلك مثلت فنلندا وكرا سريا وربما حتى علنيا في بعض الاحيان لتحركات لينين من اجل التهيئة للثورة البلشفية وكذلك ثورة “تشرين الثاني 1917” التي كانت تمثل المرحلة الثانية من الثورة الروسية، وهي بمثابة التتمة لأول ثورة شيوعية في القرن العشرين قادها البلاشفة تحت إمرة فلاديمير لينين وليون تروتسكي بناء على أفكار كارل ماركس، لإقامة دولة شيوعية وإسقاط الجمهورية الديموقراطية وقد رفعت آنذاك شعارها المعروف الخبز والسلام و الأرض للجميع.
لينين زار فنلندا 26 مرة في الاعوام 1905، 1906، 1907، 1917 واقام فيها لمدة عامين “1905ـ 1907”. في مدينة تامبيرا الفنلندية وفي قاعة العمال وسط المدينة تم اللقاء الاول بين فلاديمير لينين و جوزيف ستالين خلال مؤتمر عقد عام 1906 من اجل التنسيق بين القوى العمالية التي كانت تلملم شتاتها وتتأهب للقيام بالثورة لبلشفية. في ذلك المكان اسس متحف لينين ولازال قائما حتى اليوم.
كانت فترة نيكولاي الثاني قاسية ومثيرة للاحتقان بالنسبة للفنلنديين وحتى للشعب الروسي ايضا. وبالمقارنة الى اسلافه ممن حكموا فنلندا فان نيكولاي الثاني كان هو الاقسى والاكثر ديكتاتورية على الفنلنديين، الثقافة، اللغة والحريات في فنلندا.
جمال الخرسان